منوعات

جوائز سمير قصير 2021 -المقالات الفائزة-

جوائز سمير قصير 2021: الجندر، اقتصاديات الاعتقال، والانتهاكات الإسرائيلية

جوائز سمير قصير 2021: الجندر، اقتصاديات الاعتقال، والانتهاكات الإسرائيلية فاز عن فئة التحقيق الاستقصائي، سلطان جلبي، من سوريا: “تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري”

أعلنت بعثة الاتحاد الأوروبي في لبنان، بالتعاون مع مؤسسة سمير قصير، نتائج الدورة السادسة عشرة من جائزة سمير قصير لحرية الصحافة، خلال برنامج تلفزيوني خاص تمّ بثّه على قناة المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناشونال (LBCI). وتحظى هذه الجائزة التي أسسها الاتحاد الأوروبي وما زال يمولها، بتقدير واسع النطاق عالمياً، كونها جائزة أساسية من جوائز حرية الصحافة، وأعرق الجوائز الموزّعة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنطقة الخليج. ويُقام حفل تسليم الجائزة سنوياً بمناسبة ذكرى اغتيال الصحافي اللبناني سمير قصير في 2 حزيران/يونيو 2005 في بيروت، وتخليداً لحياته وقيمه وذاكرته.

شهد هذا العام المزيد من التحديات في مواجهة حرية الإعلام في المنطقة، شملت اغتيالات صحافيين ومفكرين، هجوماً على وسائل إعلامية، واستمراراً في احتجاز وسجن عاملين في القطاع الإعلامي.  من خلال الجائزة، يجدد الاتحاد الأوروبي التزامه بدعم الصحافة المستقلة والمعمّقة كأحد العوامل الأساسية لبناء مؤسسات رسمية قوية، شفافة وخاضعة للمساءلة.

وتكافئ هذه الجائزة الصحافيين الذين تميّزوا بفضل جودة عملهم والتزامهم بحقوق الإنسان والديمقراطية. وقد شهدت دورة هذا العام مشاركة 206 صحافيين من الجزائر، والبحرين، ومصر، والعراق، والأردن، ولبنان، وليبيا، والمغرب، وفلسطين، وسوريا، وتونس واليمن. وتنافس 66 مرشّحاً عن فئة مقال الرأي، و88 عن فئة التحقيق الاستقصائي، و52 عن فئة التقرير الإخباري السمعي البصري. ينال الفائز في كلّ من الفئات الثلاث جائزة 10 آلاف يورو، في حين ينال كل من المرشحين اللذين وصلا إلى المرحلة النهائية في كل فئة جائزة بقيمة ألف يورو.

أما الفائزون بالجائزة لعام 2021، فهم:

– فئة مقال الرأي: يحيى اليعقوبي من فلسطين، من مواليد 1989 ومقيم في مدينة غزة. نُشر مقاله الذي حمل عنوان “إياد الحلاق… فلويد فلسطين أراد الحياة أيضاً” في “شبكة قدس الإخبارية” في 1 آذار/مارس 2021. وهو يروي حادثة قتل طالب فلسطيني، مصاب بالتوحد، على حاجز إسرائيلي في القدس، وتبرئة الجنود الذين أطلقوا النار عليه.

– فئة التحقيق الاستقصائي: سلطان جلبي من سوريا، باحث وصحافيّ استقصائي من مواليد 1979. يحمل تحقيقه عنوان “تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري” وقد نُشر في موقع “حكاية ما انحكت” يوم 16 نيسان/أبريل 2020. يوثّق التقرير تجربة 100 عائلة سورية من ذوي المعتقلين والمخفيين قسرياً في سجون النظام السوري، مع شبكة من العمليات المالية معقدة تدور بين السجون والأجهزة الأمنية والقضائية.

– فئة التقرير الإخباري السمعي البصري: للمرة الأولى منذ انطلاق الجائزة، تقاسم الفوز عملان. الأول هو التقرير المشترك للصحافيتين المصريتين هدى زكريا، من مواليد 1990، ومنة الله حمدي، من موليد 1971، بعنوان “معركة الآنسة فريدة”، والثاني للصحافي والمصور التونسي حمادي الأسود، من مواليد 1992، بعنوان “أسرار بن جويرة: دم جديد، كفاح قديم، نضال متواصل”. نشر تقرير كل من هدى ومنة الله في صحيفة “المصري اليوم” في 8 كانون الثاني/يناير 2021، وهي يروي تجربة المدرسة المصرية العابرة جنسياً فريدة رمضان والصعوبات التي تواجهها في محيطها العائلي والمهني وفي المجتمع المصري بشكل عام. أما تقرير حمادي، فنشر في موقع “نواة” في 5 شباط/فبراير 2021، وهو يضيء على نضال الناشطة النسوية التونسية أسرار بن جويرة من أجل حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والعدالة والمساواة والإدماج.

في هذا الإطار، قال سفير الاتحاد الأوروبي في لبنان رالف طراف إن “استقلالية القضاء جوهرية من أجل حماية الحريات. يستطيع القضاء القوي والمستقل أن يتابع قضايا التهديد والابتزاز والعنف. وبالدرجة نفسها، تشكل حرية الصحافة حجر أساس للديمقراطية. من خلال جائزة سمير قصير، ندعم صحافيين مستقلين، يفضحون الممارسات الخاطئة ويتمسكون بحرية الرأي والتعبير”.

أما مالك مروة، نائب رئيس مؤسسة سمير قصير، فأكد أن الصحافيين سيتمتعون بالأمان عندما تصبح أنظمة المنطقة منفتحة لتنوع الآراء، وعندما “تتم محاسبة قتلة الصحافيين”. كما حيّا جرأة المتبارين في جائزة سمير قصير الذين أضاؤوا على قضايا غائبة عن الاهتمام العام. وأضاف: “أن يكون 70% من المتأهلين للمرحلة النهائية من النساء لمصدر أمل بالمساواة وبمستقل الصحافة في المنطقة”.

وتولّت لجنة تحكيم مستقلة مؤلّفة من سبعة متخصصين في شؤون الإعلام، وباحثين، ومدافعين عن حقوق الإنسان، من عرب وأوروبيين، اختيار الفائزين. وقد ضمّت لجنة التحكيم هذا العام أميرة الشريف (اليمن)، مصورة صحافية حائزة جوائز عالمية؛ داود كتاب (فلسطين)، مدير عام شبكة الإعلام المجتمعي ونائب رئيس معهد الصحافة الدولي؛ شدى إسلام(بلجيكا)، كاتبة وخبيرة استشارية في مجالات السياسات العامة والتواصل وأستاذة زائرة في كلية أوروبا؛ كيم غطاس (لبنان)، مراسلة دولية ورئيسة شبكة “إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية” (أريج) وممثلة مؤسسة سمير قصير في لجنة التحكيم؛ ماثيو كاروانا غاليسيا (مالطا)، صحافي استقصائي ورئيس مؤسسة دافني كاروانا غاليسيا، التي تحمل اسم والدته، الصحافية الاستقصائية التي اغتيلت في مالطا العام 2017؛ محمد ياسين الجلاصي (تونس)، رئيس النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين؛ ويسبر هويبرغ (الدنمارك)، المدير التنفيذي لمؤسسة دعم الإعلام الدولي.

وللسنة الثانية على التوالي، تم تقديم “جائزة الطلاب” التي منحها 23 طالباً من جامعات لبنان وتونس والجزائر واليمن لأحد المتأهلين. فحصل الطلاب على فرصة الاطلاع على الأعمال المتبارية والتفاعل افتراضياً مع المرشّحين العشرة الذين وصلوا إلى المرحلة النهائية، والتباحث معهم في مضمون مقالاتهم وتقاريرهم. بعد النقاش، صوّت الطلاب لمرشّحهم المفضّل، فاختاروا يحيى اليعقوبي من فلسطين عن مقاله نفسه الذي فاز بالجائزة عن فئة مقال الرأي.

يمكن الاطلاع على المعلومات حول دورة 2021 لجائزة سمير قصير لحرية الصحافة، والتقارير والمقالات الفائزة، والسير الذاتية، فضلاً عن المقالات والتقارير لكافة الفائزين في الدورات السابقة على موقع: www.samirkassiraward.org.

—————————-

تجارة الاعتقال في سجون ومعتقلات النظام السوري/ سلطان جلبي

كيف يمول ذوو المعتقلين والمختفين قسرياً المؤسسات الأمنية التي تسلبهم أبنائهم؟

هل يمول ذوو المعتقلين والمختفين قسرياً المؤسسات الأمنية التي تسلبهم أبنائهم؟ للإجابة عن هذا السؤال، اعتمد هذا التحقيق على تقصّي حالة مئة مواطنة ومواطن سوريين ممن تعرّضوا للاعتقال أو الإخفاء القسري على يد قوات النظام السوري، منهم من نجا، ومنهم من قضى، وآخرون مازالوا يكابدون مع عائلاتهم، لمعرفة خبايا هذه السوق التي تتاجر بالمعتقلين وألامهم، ولمحاولة إيجاد رقم تقديري لهذه المبالغ المتداولة في هذا السوق.

صحافي وباحث اجتماعي سوري مقيم في تركيا، مهتم بقضايا التغير الثقافي والاجتماعي والتنمية الاقتصادية في سوريا.

(ينشر هذا التحقيق ضمن مشروع “سوريا في العمق” بالتعاون والشراكة مع المنظمة الدولية لدعم الأعلام (IMS) ومؤسسة الغارديان فاونديشن وموقع حكاية ما انحكت)

“الاعتقال باهظ التكلفة، أن يكون لديك معتقل يعني أن تنكب اقتصادياً أيضاً ويتنعم من ظلمك بمالك”. هذا ما يقوله والد أحد المعتقلين لحكاية ما انحكت، فيما يقول اسماعيل علي (32 عاماً)، والذي اعتقل في دمشق عام 2012 “أحمل شعوراً بالذنب لا يوصف، لقد أجبرت عائلتي الفقيرة على دفع ستة آلاف دولار لإخراجي من سجن صيدنايا، وبذلك دمرت معيشة والدي ومستقبل أخوتي الصغار”.

سجنهنّ النظام ونبذهنّ المجتمع

19 تشرين الثاني 2019

اعتمد هذا التحقيق على تقصّي حالة مئة مواطنة ومواطن سوريين ممن تعرّضوا للاعتقال أو الإخفاء القسري على يد قوات النظام السوري، منهم من نجا، ومنهم من قضى، وآخرون مازالوا يكابدون مع عائلاتهم. وركزنا في التقصي على البعد الاقتصادي لتجربة الاعتقال أو الاختفاء القسري ليكشف التحقيق عن وجود سوق متسعة ترافق تلك العمليات، بضاعتها أخبار وإجراءات وأحكام قضائية، زبائنها عائلات يائسة تبحث عن أبنائها، واجهتها وسطاء ومحامون، أما باعتها الرابحون فهم عاملون في المؤسسات الأمنية والقضائية التابعة للنظام، والتي اعتقلت أو أخفت قسرياً ما يقدّر بربع مليون من مواطنيها منذ اندلاع الانتفاضة ضد نظام بشار الأسد في أذار 2011، معظمهم على خلفية مشاركتهم في نشاطات سياسية أو مدنية.

تم الوصول إلى حالات التقصي المئة وفق أسلوب عينة كرة الثلج دون أي شرط مسبق سوى أن يكون الشخص قد احتجز من قبل أحد أجهزة النظام الأمنية أو القوات التابعة له. بالتالي تضمنت المقابلات التي أجريت في كل من سوريا وتركيا حالات مختلفة من حيث خلفيات الاحتجاز والتهم التي وجهت إليهم والمآلات التي بلغتها قصصهم.

الشكل التالي يبين الأسباب المختلفة للاحتجاز التي مرت خلال تقصي الحالات:

من بين الحالات المئة التي تحدثنا مع أصحابها إن نجوا، أو مع أفراد من عائلات من لم يحالفهم الحظ، قالت خمس وثمانون عائلة أنهم تعرضوا للابتزاز المالي أو طلب منهم دفع أموال لفعل شيء لمحتجزيهم. دفع منهم فعلياً خمس وسبعون حالة. وهؤلاء قدمت عائلاتهم مئة وستين دفعة مالية عبر وسطاء أو بشكل مباشر إلى عاملين في سلكي القضاء والأمن، بعضهم دفع لمرة واحدة وبعضهم مرتين أو ثلاث، أما أكثر عائلة فدفعت سبع مرات.

بلغ وسطي قيمة كل واحدة من الدفعات المذكورة حوالي خمسة آلاف دولار أمريكي وقيمتها الكلية قرابة ثماني مئة ألف دولار، وإذا ما تذكرنا أن هذا المبلغ يمثل ما دفعه خمس وسبعون فقط من الحالات المئة، يصبح وسطي تكلفة المعتقل أو المختفي أكثر من عشرة آلاف دولار.

    بلغ وسطي قيمة كل واحدة من الدفعات حوالي خمسة آلاف دولار أمريكي وقيمتها الكلية قرابة ثماني مئة ألف دولار، وإذا ما تذكرنا أن هذا المبلغ يمثل ما دفعه خمس وسبعون فقط من الحالات المئة، يصبح وسطي تكلفة المعتقل أو المختفي أكثر من عشرة آلاف دولار

يقول أحد ثلاث أشقاء اعتقلوا في فترة متزامنة لتكون عائلتهم صاحبة أكبر عدد من الدفعات ضمن الحالات: “بدأت عائلتي بدفع الأموال لمعرفة مكان احتجازنا ثم في محاولات متكررة لإجراء معاملة إخلاء سبيل، ثم لتحولنا إلى القضاء. وبعد خمس سنوات من الاعتقال، دفعنا ما تبقى من ثمن ممتلكاتنا المباعة لشراء أحكام إدانة بتهمة الإرهاب لي ولأخوتي لأن ذلك كان السبيل الوحيد للخروج”.

رامي، وهو اسم مستعار لرب أسرة ثلاثيني اعتقل عام  2013 في مدينة حمص، قال إن مجموع ما دفعته عائلته يقارب الأربعين ألف دولار، وتلك ليست أكبر المبالغ التي مرّت ضمن الحالات التي تم تقصيها في هذا التحقيق.

أين تبدأ القصة؟

منذ اللحظة التي يتعرّض فيها الشخص إلى الاعتقال أو الإخفاء تدخل عائلته بشكل أو بآخر فلك تلك الدورة الاقتصادية، إذ لا يكاد التمييز بين حالات الاعتقال والإخفاء القسري يكون ممكناً خلال الفترة الأولى من الاحتجاز لأن معظم المحتجزين ينقطعون عن العالم الخارجي لفترة قصيرة أو طويلة وحتى الأجهزة الأمنية والعسكرية التي تنفذ الاحتجاز لا تبلّغ عائلات المحتجزين بالأمر.

لم تتلقى أي من العائلات المئة التي تقصينا عن تجاربها بلاغاً مكتوباً أو شفهياً عن وقوع الاعتقال باستثناء عائلة وحيدة، والباقي كانوا أمام خيارين، إما دفع أموال بشكل مباشر أو عبر وسطاء إلى أشخاص في سلك الأمن لجلب معلومات عن مكان المحتجز وحالته، أو الانتظار على أمل أن ينجو معتقل ما، فيحصلون منه على خبر عن مكان ابنهم أو ابنتهم.

غالباً ما يكون اللجوء إلى الخيار الأول اتجاهاً شبه قسري تسلكه معظم عائلات المحتجزين التي تكون مستعدة لدفع أي مبلغ تستطيعه في محاولة إنقاذ أبنائها من جحيم معتقلات النظام التي يعرفونها جيداً قبل خروج صور “قيصر” بوقت مديد، وليس بالضرورة أن تجدي الأموال نفعاً في النهاية، لقد كان الشاب مجد خولاني ناشطاً سلمياً معروفاً في منطقة داريا إحدى ضواحي دمشق الغربية، اعتقله النظام في أغسطس عام 2011، بعد أن كان قد اعتقل  شقيقه الأكبر عبد الستار قبله.

تقول شقيقتهما غفران خولاني لحكاية ما انحكت: “كنا نخرج أنا وأمي كل أسبوع باحثين عن مجد وعبد، نقدم طلبات في القضاء العسكري وإلى وزارة الداخلية أو نقف لساعات أمام أفرع الأمن التي لا يسمح لنا بدخولها على أمل أن نلمح أحدهما في مواعيد نقل المعتقلين من الفرع، بينما كان أبي تاجراً ميسور الحال ومستعداً لدفع الملايين فقط لتحويلهم إلى سجن عدرا المدني حيث يمكننا زيارتهم لكن دون جدوى.. كل المحامين والوسطاء الذين لجأنا إليهم كانوا ينسحبون من القضية حين يعلمون أن الأمر متعلق بمجموعة النشطاء السلميين في داريا وكثير منهم كان يفعل ذلك بعد قبض المال”.

    تكون العائلات مستعدة لدفع أي مبلغ تستطيعه في محاولة إنقاذ أبنائها من جحيم معتقلات النظام التي يعرفونها جيداً قبل خروج صور “قيصر” بوقت مديد

بعد حوالي عام ونصف على الاعتقال تمكنت العائلة من زيارة مجد وعبد في سجن صيدنايا العسكري الذي وصفته منظمة العفو الدولية بالمسلخ البشري. لم يحدث ذلك دون دفع مبلغ كبير من المال بالطبع، لكن خلال ذلك العام اعتقل الأمن الجوي شقيقين آخرين لمجد وعبد وهما محمد وبلال، واعتقل أيضاً شقيقتهم أمنه خولاني وزوجها ثم زوج شقيقتها الأخرى ليصبح عدد معتقلي العائلة سبعة. وأمنه بالمناسبة أيضاً ناشطة معروفة وفي مارس من هذا العام كانت آمنه واحدة من بين اثني عشر امرأة في العالم اخترن لنيل الجائزة الدولية للمرأة الشجاعة التي تمنحها وزارة الخارجية الأمريكية كل عام.

تتابع غفران “حتى عام 2015 حين غادرنا سوريا مكرهين كان البحث عن معتقلي العائلة ومحاولة إخراجهم هو الشغل الشاغل لنا، لا أعرف بالضبط حجم الأموال التي دفعتها العائلة خلال تلك الفترة لكنها كبيرة وكانت غير مجدية في حالات مجد وعبد ومحمد”. حتى العام المذكور تمكنت العائلة من إنقاذ آمنه وزوجها، بالإضافة إلى الشقيق بلال وزوج أخته، لكن الأشقاء الثلاثة المتبقين قضوا تحت التعذيب، فظهرت صور لمحمد ضمن ملفات قيصر التي سربت عام 2014، بينما بقيت آمال العائلة بعودة مجد وعبد قائمة حتى عام 2018 حين سحقتها ورقة إخراج قيد من السجل المدني في داريا تقول أن الاثنان متوفيان منذ عام 2013.

حيث لا تحترم الحقوق ولا القوانين يصبح بذل المال هو كل ما يمكن فعله. وتكشف بيانتنا أن 42% من الدفعات المالية التي دفعتها العائلات كانت بغرض معرفة أماكن احتجاز أبنائهم.

في الوقت الذي تسعى العائلات في الخارج إلى معرفة أماكن أبنائها وتلمس الطرق لإنقاذهم يواجه الأبناء داخل الأفرع الأمنية والمعتقلات تهماً معدة مسبقاً وتعذيباً جسدياً ونفسياً بأبشع الصور لدفعهم إلى الاعتراف بها. ومعظمهم لا يحال إلى المحكمة إلا بعد الاعتراف بتلك التهم. في تلك المرحلة غالباً يحسم مصير المحتجز، إن كان سيبقى مختفياً قسرياً أو يتحول إلى معتقل.

المحظوظون بتحولهم إلى معتقلين غالباً ما يصلون إلى المحكمة مع اعترافات لهم بارتكاب جرائم خطيرة تستوجب بدورها دفع مبالغ مالية أكبر حجماً، وإن بدت أقل عدداً بهدف تخفيف الحكم أو إخلاء السبيل. ومن ضمن الحالات المئة التي تم التقصي عنها كان هناك واحد وسبعون حالة صنفوا كمعتقلين، بينما الباقي ظلوا بحكم المختفين قسرياً.

والشكل التالي يوضح التهم التي وجهت إلى المعتقلين منهم:

ينبغي الإشارة أيضاً أن معظم الحالات الواحدة والسبعين أعلاه ممن وصلت ملفاتهم إلى المحاكم أو صرّح النظام عن وجودهم لديه على الأقل، مروا قبلها بمرحلة من التنقلات بين الأفرع الأمنية التابعة للأجهزة المختلفة أو الواقعة في محافظات مختلفة في رحلة قد تمتد إلى أشهر وأحياناً سنوات. وفي اثنين وخمسين حالة من أصل الحالات التي صنفت كمعتقلين كانت قد حدثت تنقلات تراوحت أعدادها بين اثنين إلى تسعة، وبلغ وسطي عدد الأفرع الأمنية ومراكز الاعتقال التي يمر بها كل المعتقلين قبل الوصول إلى المحكمة حوالي ثلاثة، عادة ما يكون في كل منها تهم جديدة وتحقيق وأنماط تعذيب مختلفة جديدة، وبالطبع المزيد من الرشاوى. رغم ذلك ربما يصح وصف هؤلاء “بالمحظوظين” لأن آخرين من أقرانهم عاشوا نفس التجربة وانتهوا إلى مصائر أكثر تراجيدية.

حول ذلك، يقول لحكاية ما انحكت، القاضي السابق في دمشق، رياض علي، والذي انشق عن النظام عام 2013، ويقيم حالياً في فرنسا: “ليس كل الذين تعتقلهم أفرع الأمن تحال أوراقهم إلى النيابة العامة، فهناك من يختفي أثرهم نهائياً.. سلطة الأفرع الأمنية فعلياً أقوى من وزارات الداخلية والعدل، وكقضاة لم يكن مسموحاً لنا مثلا بالدخول إلى سجون الأفرع”. لكن من هي أبرز تلك الجهات التي تنفذ عمليات الاحتجاز؟

    لجهازي الأمن العسكري والأمن الجوي الدور الأكبر في تنفيذ الاعتقالات والإخفاء القسري، حيث كانا مسؤولين عن قرابة نصف حالات الاحتجاز التي تقصينا عنها.

بالدرجة الأولى، يبدو أن لجهازي الأمن العسكري والأمن الجوي الدور الأكبر في تنفيذ الاعتقالات والإخفاء القسري، يتبع الجهازان المذكوران لمديرية المخابرات العامة ويرتبطان مباشرة برئاسة الجمهورية حسب القاضي السابق. وكانا مسؤولين عن قرابة نصف حالات الاحتجاز التي تقصينا عنها.

فيما توزع النصف الأخر على الجيش وأجهزة الأمن الأخرى كأمن الدولة والأمن السياسي، كما حدث في عشر حالات أن كانت الجهة المحتجزة مليشيات تابعة للنظام كقوات الدفاع الوطني ومجموعات (الشبيحة) كما يعرفون محلياً، كل ذلك مع دور شبه معدوم لجهاز الشرطة.

الشكل التالي يبين توزع حالات الاستقصاء حسب الجهة المنفذة للاحتجاز:

لمن تدفع الأموال؟ وأين يصب جدواها؟

لا تتواصل العائلات إلا نادراً بشكل مباشر مع المسؤولين المرتشين في الأمن والقضاء، بل تتم العملية عبر شبكة من الوسطاء الذين يسمون محلياً “بالـمفاتيح” فلكل قاضي أو ضابط مفتاح أو أكثر، هو الذي تلجأ إليه العائلات طلباً للمساعدة مقابل دفع الأموال، غالباً ما يصرح الوسيط للعائلات عن الجهة أو الشخص الذي ستصب لديه أموالهم، لكن ليس بالضرورة أن يحدث ذلك دائماً، حتى أن العائلات ليس لديها وسيلة للتأكد من أن الأموال وصلت بالفعل إلى المسؤول إلا إذا تحققت لاحقاً الغاية التي دفعوا لأجلها المال.

ينشط ضمن شبكة “المفاتيح” تلك على ما يبدو ثلاثة أنواع من الوسطاء. هناك السماسرة وهم أشخاص مدنيون لديهم علاقات مع مسؤولين في النظام، إلى جانب العاملين الصغار في سلك الأمن والقضاء، بالإضافة إلى دور بارز للمحامين. فمن بين الدفعات المالية المئة وستين المذكورة، سلّم 46% منها إلى سماسرة، فيما استلم محامون حوالي 25% منها، ونسبة قريبة منها سلمت إلى عاملين صغار في سلكي الأمن ثم القضاء.

    لكل قاضي أو ضابط مفتاح أو أكثر هو الذي تلجأ إليه العائلات طلباً للمساعدة مقابل دفع الأموال

تعطي النسب السابقة مؤشراً حول درجة مساهمة كل نوع من الوسطاء في نشاط الشبكة، لكن الأمور على أرض الواقع قد تكون أكثر تعقيداً، فأحياناً تمتد الوساطات من شخص لآخر فآخر، فالعائلات تبدأ البحث غالباً من خلال الأقارب والمعارف الذين لديهم علاقات مع مسؤولين في النظام، قد يقودهم ذلك البحث مباشرة إلى وسيط يصلهم مع المسؤولين عن أمر أبنائهم أو إلى وسيط يقود إلى وسيط آخر، وهو ما يحدث غالباً عندما ينقل الأبناء إلى محافظات اخرى. لكن في حالات أخرى يتواصل الوسطاء أنفسهم مع عائلات المعتقلين ويطلبون منهم دفع الأموال.

روي لحكاية ما انحكت، معتقل سابق يقيم في تركيا ممن تحدثنا إليهم عن قريب له مازال معتقلاً عند النظام حتى الآن بالقول “حتى فترة قريبة تواصل معنا شخص مقرب من النظام، وقال إن قريبكم موجود في سجن صيدنايا، وهو بين الحياة والموت وطلب منا دفع خمسة آلاف دولار ليخرجه من هنا، لكن كيف لنا أن نثق بشخص لا نعرفه؟”.

    تغلف العملية كلها بستار من التكتم ولا يكون لدى العائلات أي ضمانات أو قدرة على مطالبة الوسيط أو المسؤول في حال تعرضوا للخداع والاحتيال

غلف العملية كلها بستار من التكتم ولا يكون لدى العائلات أي ضمانات أو قدرة على مطالبة الوسيط أو المسؤول في حال تعرضوا للخداع والاحتيال. تقول مريم حلاق، وهي والدة الطبيب والناشط المدني أيهم غزول الذي اختفى قسرياً في دمشق أواخر 2012 أن محامياً طلب منها مبلغ يعادل ثلاثة عشر ألف دولار للإفراج عن ابنها. وعلى ذلك عقدت معه الاتفاق “كان يتصل بي ليخبرني أن أيهم سيكون في البيت بعد ساعتين ويطلب مني إعطائه المال، و حين أرفض إعطائه المبلغ حتى تسلم ابني كان يؤجل مرة بعد مرة، كان يتحدث بثقة وأحياناً يعطي الهاتف لشخص ثالث على أنه الضابط المسؤول عن حالة أيهم، بقيت أشعر أنه يحتال علينا، لكن كان احتمال صدقه بواحد في المئة كافياً لإبرام الاتفاق معه وتجميع المبلغ بأي شكل”. استمرت دورة منح الأمل والابتزاز تلك حوالي ستة أشهر، وأتى بعد المحامي سمسار آخر بقصة جديدة، كل ذلك بينما كان أيهم قد قتل في فرع المخابرات الجوية في دمشق بعد أربعة أيام فقط من احتجازه.

ما يرجح أن تكون الأموال وصلت إلى المسؤول كما قلنا سابقاً هو تحقق الأمر الذي دفعت لأجله، سواء كان تحويلاً إلى المحكمة أو إخلاء سبيل أو غيرها. لكن ليس بالضرورة أن يحدث ذلك دوماً. وفي نسبة 46% من الدفعات المالية قالت العائلات أن مرادهم تحقق، أما النسبة الأكبر المتبقية فيبدو أن الأموال قد ذهبت سدى.

ذلك يعطي تقديراً عن حجم عمليات الاحتيال التي تتعرض إليه العائلات. ورغم ذلك تشير بيانات الاستقصاء حول الأشخاص أو الجهات التي يفترض أن تكون الأموال وصلت إليها أن المستفيدين الأكبر هم ضباط الأمن ثم القضاة، ولاحقاً يأتي المسؤولون النافذون في القطاعات الأخرى.

القيمة الاقتصادية لتجارة الاعتقال والدور الوظيفي لها

إذا صح لنا اعتبار نتائج تقصي الحالات المئة أساساً للخروج بتقدير لقيمة عائدات تجارة الاعتقال على مسؤولي النظام وشبكة الوسطاء الذين يعملون في فلكه على مستوى سوريا، فإن التقدير الأدنى يشير إلى حوالي مليار دولار، وذلك على أساس قوائم الأسماء التي وثقتها الشبكة السورية لحقوق الإنسان لمواطنين مازالوا قيد الاعتقال والاختفاء القسري ما بين آذار 2011 حتى آب 2019، لكن تلك القوائم لا تضم الأشخاص الذين نجوا أو قتلوا تحت التعذيب خلال تلك السنوات، كما لا تضم من لم توثق أسمائهم. أما التقدير الذي يمكن بناؤه على أساس العدد الكلي للمحتجزين الحاليين والسابقين والمقدر بربع مليون شخص فتطاول عتبة ملياري دولار. وهو ما يزيد وفق سعر الصرف الحالي عن ألفي مليار ليرة سورية، أي حوالي نصف قيمة الموازنة العامة للدولة في سوريا لعام 2020 البالغة 4000 مليار ليرة، ويعادل أيضاً أربعة أضعاف كامل كتلة الرواتب والأجور والتعويضات التي تدفعها الدولة السورية للعاملين في كل مؤسساتها الإدارية ضمن نفس العام والبالغة 501 مليار ليرة.

والشكل التالي يبين طريقة الوصول إلى التقدير المقترح:

 أياً كانت النسبة والتناسب بين ما وصل من تلك الأموال إلى جيوب المسؤولين وما استولى عليه الوسطاء أنفسهم، تبقى المسألة برمتها أشبه بعملية إعادة توزيع للثروة من جيوب معارضي النظام إلى جيوب مؤيديه، والتي أثرت بشكل أو بآخر في تماسك المؤسسات الأمنية وشبكات العلاقات المحيطة بها طيلة سنوات التدهور الاقتصادي في البلاد. يتضح الدور الوظيفي لعمليات الابتزاز المالي أكثر إذا علمنا أن راتب القاضي في سوريا مع كل التدهور في قيمة صرف الليرة وكل الزيادات التي أضيفت لا يصل إلى عتبة مئتي دولار، والأمر لا يختلف كثيراً بالنسبة لرواتب الضباط والعاملين في الأجهزة الأمنية والعسكريين والمحددة بموجب مرسوم رئاسي عام 2018 وتتراوح ما بين 40 حتى 98 الف ليرة شهرياً للرتب العليا وذلك ما يعادل أقل من مئة دولار وفق سعر صرف الحالي.

ماذا عن العائلات؟ ماذا عن الزوجات والامهات؟

اعتقلت “سندس فلفة” 39 عاماً من مظاهرة في مدينة اللاذقية أواسط 2011، كانت حاملاً آنذاك بطفلتها الثانية التي ولدت في المعتقل. قضت سندس عاماً تقريباً متنقلة بين عدة أفرع أمن، ودفع والدها خلال ذلك العام حوالي خمسة وأربعين ألف دولار حتى أخرجها، لكن بعد الخروج تقول لحكاية ما انحكت “رفضني زوجي وانفصلنا، غادرت المدينة مخافة اعتقال ثاني ولم أرى أمي وأبي بعدها حتى وفاتهما، لكن الأمر الأكثر صعوبة كان أن ابنتي الأولى ذات العامين لم تكن تتذكرني وكانت محاولاتي إقناعها بأنني أمها مرة أخرى أمراً مؤلماً”.

خلال تقصي الحالات أيضاً تحدثنا إلى زوجات شابات فقدن أزواجهن، أمهات وآباء شاخوا في انتظار أبنائهم، وإلى شباب وشابات كانوا أطفالاً حين اعتقل آبائهم.

العبء النفسي والاجتماعي لخسارة فرد من العائلة أمر لا يمكن تقديره كمياً، فكل معتقل أو مختفي هو جرح مفتوح في جسد عائلته كحالة طفلة لم ترى أباها المعتقل منذ ولدت قبل خمس سنوات لكنها تخبئ له قطعة حلوى كأنه عائد غداً.

لكن تقدير العبء الاقتصادي ربما يكون أسهل بعض الشيء فكل معتقل أو مختفي يترك خلفه أدواراً اقتصادية شاغرة. ومن ضمن حالات التقصي المئة كان خمس وسبعون منهم متزوجين ولديهم أسر يرعونها ويعيلونها، وشكلت الفئة العمرية الشابة والمنتجة ما بين عشرين إلى أربعين عاماً، خمسة وستين من الحالات. وكذلك خمس وأربعون منهم كانوا من الحاصلين على مؤهلات جامعية فأكثر، ممن استثمرت فيهم عائلاتهم لسنوات. ليضاف هنا عبء غياب الشاب المعيل إلى عبء الحاجة لدفع أموال كثيرة لإنقاذه ما أوصل حوالي نصف العائلات إلى حدود الفقر المدقع بعد أن لجأت إلى استهلاك المدخرات وبيع الممتلكات وإلى الاستدانة في حالات كثيرة.

من بين الحالات المئة أفرج النظام عن واحد وأربعين منهم، سواء كإفراج بكفالة أو بعد انقضاء فترة العقوبة، بينما لم يخرج أحد بحكم براءة وإسقاط للتهم، غادر ثلاثة أرباع الناجين البلاد محملين بآلام جسدية ونفسية. فيما بقيت هناك خمسون حالة أخرى لا تعرف عائلاتهم أي معلومات مؤكدة عنهم حتى الآن.

يقول لحكاية ما انحكت، أربعيني اعتقل في حلب عام 2012 ودفع حوالي عشرين ألف دولار للخروج بعد ستة أعوام “بالنسبة للنظام هي تجارة يغذي بها مؤسساته الأمنية والقضائية، وليس لديه مشكلة في ذلك، فهو إن أفرج عن مئة اليوم يمكنه في اليوم التالي اعتقال مئتين لتبدأ الدورة من جديد”، فمن يغلقها؟

(هذا التحقيق من تحرير حسن عارفة وإشراف محمد ديبو)

——————————–

مصابٌ بالتوحد قتلتهُ الشرطة الإسرائيلية بطريقه للمدرسة

إياد الحلاق.. “فلويد فلسطين” أرادَ التنفُسَ أيضًا

يحيى اليعقوبي

“في حضرة الغياب الموت لا يوجع الموتى، إنما يوجع الأحياء (..) هذا هو العرس الذي لا ينتهي، في ساحة لا تنتهي، وفي ليلة لا تنتهي.. هذا هو العرس الفلسطينيّ، لا يصل الحبيب إلى الحبيب إلّا شهيدًا أو شريدًا” (محمود درويش).

كأنَّ تلك الرصاصات التي قتلت ابني إياد الحلاق اخترقتْ قلبي قبل أن تصل إليه، مرت عشرة أشهر على رحيله، كأنَّ الحياة تجمدت لديَّ وتوقفت عقاربها عند لحظة قتله، فلا أرى إلا اللون الأسود، افتقدتُ شيئًا كبيرًا بغيابه، ولَكَم أحنُّ لمعانقته.

 منذ تلك اللحظة أنام على سريره ووسادته التي غرقت من دموعي، أسترجع ذكرياتي معه وكأني في حلم، أتمنى أن أفيق منه وأستيقظ لأفتح ذراعي لإياد وهو عائدٌ من المؤسسة التعليمية، أبكي تحت أنقاض الذكريات في غرفته، فعندما تنطفئ أنوارها ويخيم الظلام على كل ركن فيها تنهمر الدموع على خدودي، وتمزق أوصالي تلك الجراح التي غُرست في قلبي.

قتل أفراد من الشرطة الإسرائيلية ابني إياد المصاب باضطراب “التوحد”، فلم يمنع ذلك هؤلاء الجنودَ من إطلاق ست وعشرين رصاصة اخترق بعضها جسده، على الرغم من معرفتهم بوضعه الصحي وهم يرونه يمر عنهم داخل البلدة القديمة بالقدس منذ ست سنوات، يذهب إلى مؤسسة “الوين” لرعاية الأشخاص ذوي الإعاقة للتعلم “مساعدَ طباخ”.

بصفتي أمًّا لإياد لا يزال الغائبَ الحاضرَ في قلبي ووجداني، يزورني مع همسات المساء، وإشراقات الصباح، لم تمحُه الأيام، ولم تطوِه الذكريات، وكأنَّ طيفه يدور مع تلك العقارب التي لا تتوقف، تمامًا كما لا أتوقف عن التفكير به.

كل صباح وقبل أن تتسلَّم الشمس مناوبتها أنتظره على عتبات البيت، على أمل أن يعود، ويطل بابتسامته التي لا تفارق وجهه كسكون الملائكة وهدوء المسنين، كانت عيونه ممتلئة بالحب وحلم بسيط بأن يدمج في سوق العمل مساعدَ طباخ، ويتزوج فتاة يحبها، ويعيش مستقلًّا في منزل يُظِلُّ تحت سقفه أحلامَه البسيطة، فهو المسالم الذي لا يحب الاقتراب من أحد، لكنهم اقتربوا منه بجريمة مكتملة الأركان بحق شاب من ذوي الإعاقة.

كيف أنسى كلماته عندما تحررها شفتاه ويضمني بذراعيه: “أنتِ يا ماما، كل شيء بحياتي”؟

في الـ30 من مايو/ أيار 2020، فتح أيار صفحة ذلك اليوم هادئًا، وما إن وصلت عقارب الساعة في دورانها إلى السادسة صباحًا خرج إياد إلى مؤسسته التعليمية، تتزاحم كل خصال الفرح على وجهه، فبعد يومين سينتهي تدريبه، وسيبدأ العمل، وسيكون هذا النجاح ثمرة تعب على مدار 31 عاما في تربيته والسهر على رعايته وإخراجه من وحدته قدر الإمكان. لقد عانيت في ذلك كثيرًا، وتقاعدت عن ممارسة وظيفتي “معلمة” لأجل تعليمه وحده، وكذلك تخصصت شقيقتاه في التعليم لأجله.

ونحن ننتظر الفصول الأخيرة في حكاية نجاح إياد، ونتجهز للاحتفاء به في سوق العمل كأول شاب من ذوي التوحد يصل لذلك، خرج سريعَ الخطوات، يتجنب الاقتراب من أحد، متجهًا إلى مؤسسته كعادته، فما إن مر بجانب أفراد الشرطة الإسرائيلية عند باب الأسباط بالبلدة القديمة بالقدس أوقفوه، على الرغم من معرفتهم به جيدًا، فهو يمر عليهم كل يوم منذ سنوات -حتى أنني بعد استشهاده وتسلُّم جثمانه رأيت آثار كدمات وضرب بعنف على وجهه– فهرب منهم بعدما رأى معلمته تمشي تجاه المؤسسة، وقبل أن يصلها أطلقوا عليه ثلاث رصاصات أصابت قدميه –حسب ما أظهرت بعض الكاميرات وروايات شهود عيان والمعلمة لي– احتمى خلف ظهرها يصرخ مرتجفًا: “أنا معها.. أنا معها.. أنا معها”.

تجاهل عناصر الشرطة الإسرائيلية ما قالته لهم المعلمة: “هدا معي بالمركز، من ذوي الإعاقة، ما معه شيء”، ثم حاولت الابتعاد به إلى داخل مكتبٍ لإدارة النفايات.. طرق بيدَيْها المرتجفتَيْن البابَ المغلقَ طرقات عدة، والدماء تنزف من قدمي إياد المرتعب.

 لكن عناصر الشرطة وصلتهما كوحش مفترس يحاصر فريسته، فأبعدوا المعلمة عنه، وداست أصابعهم على أزندة بنادقهم، لتنطلق رصاصات كثيفة إلى جسد ابني الضعيف كضباع انهالت على فريسة، ونهشت روحه إلى أن سكتت أنفاسه بعد 26 رصاصة ابتلعت صدى صوتها جدران المكان، وعرجت روحه إلى السماء.

شاب نحيل الجسد لا يدرك ما يجري حوله، ولا يعرف شيئًا عن السياسة، تُغتال روحه بجريمة بشعة لو حدثت في دولة أخرى لاهتزَّ الضمير العالمي. نزفت دماؤه على أرضية البلدة القديمة، وغادرت جسده الذي هو أحق من الأرض بها.

وقف الخوف على عتبات بيتي يستعد للدخول، فقط أنتظر تلك المكالمة الهاتفية التي وصلتني من مديرة المؤسسة، وكان صوتها مرتجفًا على غير العادة، قبل أن أرد على المكالمة توقعت أن تدعوني لحضور حفل تخرُّج إياد، لأعيش فرحة لطالما انتظرتُها، وأرى ثمرة جهدي وتعبي قد نضجت، لكنَّ في فمها شيئًا آخر، ترددت وهي تخرج الكلمات متقطعة، ثم قالتها دفعة واحدة: “إياد تصاوب”.

– “تصاوب؟”.. كيف؟ ولماذا؟ ومن أصابه؟ لم تُجِبْ عن تلك الأسئلة، فحملتُ نفسي وذهبت مسرعةً للمكان الذي يبعد عن بيتي مسيرَ دقائق عدة.

وصلت أفتش عن إياد –المصاب– كما أُخبرت، فكان أمر إصابته لي خطرًا، فهو لا يقوى على تحمل وخزة إبرة وليس ألم رصاصة.

هناك لم أرَ سوى بقايا دمائه، وأفراد الشرطة الإسرائيلية الذين يتجمعون في المكان، وكأنَّ شيئًا لم يحدث، أو أنهم في رحلة صيد انتهت ببساطة، دون أن يدركوا أنهم قتلوا كل من أحب “إياد” وقتلوني كذلك.. أتخيل المشهد الذي عاشه، حتى سرق الدمع من أحداقي وانساب بخفة لم أشعر إلا بحرقتها وهي تسقط على تلك العتبات، ثم انفجرت حنجرتي الغاضبة في وجه الجندي أفرد ذراعي: “اقتلني، اقتلني، ليش طخيت ابني؟ شو عملك وانت بتعرف انه من ذوي الإعاقة؟”.

كطائر مكسور الجناحين لم تعد له رغبة بالطيران في سماء الفرح رجعتُ للمنزل، فقد سقطت أخيرًا في وادٍ من الحزن، لأجد جنودًا وشرطةً إسرائيلية يملؤون المنزل، ويضربون ابنتي، ثم ضُربْتُ وضُرب والده، ونحن في هذه الحالة، ليكملوا الحلقة الأخيرة من فصل جريمتهم، بالاعتداء على نساء، وألقوا علينا وابلًا من الكلام البذيء ثم انسحبوا. فنظرت من النافذة فإذ بنسوة وبعض من الجيران يتجمعون خارج البيت وداخله.. تجتاحني التساؤلات: “ماذا يجري يا ترى؟ هل إياد غير مصاب؟”.

لا أحد يجيبني، فالكل يعرف شدة تعلقي بإياد، لا أحد يريد ذلك خوفًا على صحتي، في وقت كانت نيران القلق تستعر بداخلي.. جلست على كرسي أتوسد يدي ألهج بالدعاء له، ولا أجد ما يوقف دموعي، رمقت أخي وهو يذهب ويجيء أمامي عدة مرات، وكلما سألته عن إياد كان يطمئنني: “لا فقط مصاب”، ثم تغيرت روايته بعد نصف ساعة: “إصابته ربما تكون حرجة”. وجاء بعد مرور ساعتين ليصارحني بعد أن عبَّد لي الطريق للحقيقة التي كنت أعرفها من عينيه، فقط احتجت ما يؤكد أو ينفي: “الله يرحمه.. إياد استشهد”.

استشهد؟ يعني قُتل، أبهذه السهولة؟ هل دماؤنا لهذه الدرجة رخيصة كي تزهق بمزاج الجنود؟ شعرت كأن روحي تعرج إلى السماء مع تنهيداتي.

يا الله.. ما هذه العنصرية؟ ما هذا الإجرام؟ ماذا فعل إياد غير أنه كانت لديه أحلامٌ بسيطة؟ خمسة أيام فصلت قتل الشرطة الإسرائيلية ابني إياد عن قتل أحد عناصر الشرطة الأمريكية مواطنَهم الأسودَ، ففي وقت انشغل العالم بقضية قتل جورج فلويد في الولايات المتحدة، كقضية عنصرية خرج الناس من أجلها في شوارع عواصم عدة، ثم حوكمت الشرطة وأخذت عائلته حقها.

بقيت قضية إياد في أدراج الإهمال لدى القضاء الإسرائيلي على الرغم من أنها أفظع بكثير من قضية فلويد، واليوم اقترب الشهر العاشر من طي صفحته من روزنامة الأيام منذ رحيل ابني، ولم يُحرَّك الملف، بل برَّأ القضاء الإسرائيلي الضابطَ المسؤولَ، وحتمًا سيبرِّئون الجنود، أو يدَّعون أنهم يعانون الجنون، كمسوغ وغطاء يوفره القضاء لعملية قتل ميدانية يرتكبها جنود وشرطة (إسرائيل) لمجرد الشك أو الاشتباه.

ذنب ابني إياد فقط أنه فلسطيني، أنه كان يحلم بالحياة، يريد رؤية الجانب الجميل منها، وأن يخرج من بوتقة العزلة إلى العالم.

الآن فقدت الأمل بذلك القضاء، وفوضت أمري إلى قاضي السماء.

إياد.. أخبر الله بكل شيء، أخبره كم كنت تحلم وتحلم، ستبكي روحك الطاهرة بين يديه، قص بين يدي جلالته فصول هذه الجريمة، ولا شك هو أعلم بها منك.

كظمت صرخة دوى صداها في أعماقي، تجرعتها بمرارة على الرغم من أنني وددت فك أسرها وإطلاق العنان لحنجرتي وعيني لتفجير تلك الشحنة من الضنك والألم المحبوسين مع أنفاسي،  لا أصدق أنه رحل، ما زلت أرفض طي ملابسه التي أرتديها لأشتم رائحته العالقة بها، وكأنَّها تشبه رائحة “كافور” الجنان.

أتدرون؟ كلما خرجت مع شقيقتيه واشتريت لهن شيئًا، ما زلت أخطئ وأشتري لإياد، فقاسية هي اللحظة عندما تفقد ابنك الوحيد، فكيف إن كان من ذوي الإعاقة؟

منذ عشرة أشهر لا أفارق سريره، أكثر شيء أفكر فيه هو خوفه، وبِمَ شعر لحظة أوقفته الشرطة الإسرائيلية وأمسكه الجنود، أفكر بوجعه حينما أُفرغت الرصاصات بجسده، ليتهم قتلوني قبل أن تصله الرصاصات، قلت تلك الجملة للضابط الإسرائيلي.

قبل قتله كنا على وشك أن نزف زغاريد الفرح بعد شهرين من انخراط إياد في سوق العمل وزواجه، فقد أخبرني أنه يحب فتاةً ويريد أن يتزوجها، وكان يخشى ألّا أزوجه، فدائمًا يعبر عن ذلك والقلق يملأ فاه متسائلاً: “ما بدك تزوجيني؟ خلص راحت عليه؟”، كنت أرفض أن يقول ذلك.. مين حكى يا حبيبي؟ والله لأزوجك يا حبيبي، انت ما بنقصك شيء، فدائما أحاول غرس بذور الثقة داخله، وأعطيه أموالًا كي يشعر بالاستقلالية، فيشتري لأصدقائه بالمؤسسة من كل ما لذ وطاب.

إياد، اشتقت إليك يا بني، اشتقت إلى قطع الحلوى التي كنا نتقاسمها، إلى نظرتك وهي تغازل عينيَّ، اشتقت لاحتضانك، لتلك الأمسيات بيننا، فقد كنتَ قمرَها المنير، لعيد ميلادك في السابع والعشرين من كانون الثاني، ونحن نوقد شموع الفرح بك، حتى أنني كنت أرفضُ الاحتفال بيوم ميلاد والدك وأختك في الشهر نفسه إلا في يوم ميلادك؛ لرفع قدرك وشأنك بيننا، ولنخبرك كم نحن نحبك.. أفتقدك كثيرًا يا صغيري المدلل، فلم أعد أرى انعكاسي فيك، وسأكتفي بحفظ صورك في ذهني.

اشتقت إليك في يوم الأم العالمي وأنت تخبئ وردة أو هدية خلف ظهرك لتفاجئني بها، كانت تلك الهدية على بساطتها أغلى شيء عندي، اشتقت لتلك القبلة التي تطبعها على جبيني فتزرع في قلبي حبًّا لا حدود له.

منذ أن رحلت انتهت حياتي، وأغلقت الدنيا ستار الفرح أمامي.

رحل إياد، وها هي والدته “رنا الحلاق” التي قصت لي التفاصيل السابقة غارقة في حزنها، لتؤكد أنه حينما يقتل الاحتلالُ الإنسانَ فإنه أيضًا يقتل محبيه، ويقتل رسالة الرحمة والإنسانية. كنت أستمع لتنهيدات الألم والحسرة وكومة مشاعر حزينة تملأ قلب والدته المهشم من الداخل، وكأن زلزالا ضربه وهدم أعمدة التماسك فيه، فطوال حديثنا لم تتوقف الدموع.

إياد الذي امتلك ثلاثة أحلام بسيطة؛ أن يتزوج الفتاة التي يحب، ويصبح “شيفًا” لينخرط في سوق العمل، ويشتري بيتًا، سقطت أحلامه على حاجز” الموت”، هناك لا تعرف إلا لغة الموت والقتل، الجنود دائمًا مستعدون لإطلاق النار على الفلسطيني لمجرد مروره بجانب نقطة عسكرية أو قرب جنود منتشرين على مفترقات الطرق في الضفة الغربية، ما فعلوه مع إياد سبق أن فعلوه مع عشرات الشهداء الذين قتلوا بدم بارد.

ففي عام 2020 أعدم الجنود الإسرائيليون 32 فلسطينيًّا ميدانيًّا، وفي ساحات المواجهات الشعبية مع الاحتلال بالضفة الغربية المحتلة، منهم امرأتان، وشهيدان من ذوي الإعاقة، وعشرة أطفال، وقبلهم قُتل المئات بالطريقة ذاتها.

كانت شكوك جنود الاحتلال كفيلة بإعدام الشاب المقدسي المصاب بالتوحُّد إياد الحلاق، لتنتهي الجريمة بتبرئة قسم تحقيقات الاحتلال بالقدس للضابط المسؤول عن قتل إياد، ليستمر مسلسل القتل بدم بارد، فعلى قارعة الطرق تزهق أرواح طلبة وكبار سن وأطفال ونساء.

لكن أمه تحاول التعلق بقشة أمل تُحدث نوعًا من التفاؤل لديها، بعد إعلان المحكمة الجنائية الدولية فتح تحقيق بجرائم حرب بالضفة الغربية والقدس وقطاع غزة. رحبت والدة إياد بالقرار، ووصفته بأنه انتصار لكل الفلسطينيين وللإنسانية، وتتمنى أن تُكشَف حقائق وجرائم (إسرائيل) التي لم تحترم القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، وكل الأعراف والمواثيق الدولية التي نصت على حماية المدنيين والأشخاص ذوي الإعاقة، و”ألّا يُعرَّض أي شخص من ذوي الإعاقة للتعذيب أو المعاملة أو العقوبة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة، وأن تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والقضائية وغيرها لمنع تعذيبهم” وهو ما انتهكته (إسرائيل) فعلًا. ومما يزيد تفاؤل والدته ما أكدته مدعية المحكمة “استخدام (إسرائيل) القوة الفتاكة ضد الفلسطينيين”.

بعض القصص لم تنته بعد فهناك جزء متبق خلف “عذابات الموت”.

وما زالت حقوق الإنسان تُنتَهَك في فلسطين.. بأي ذنب قتل إياد؟!

https://qudsn.net/post/183146/%D8%A5%D9%8A%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%84%D8%A7%D9%82-%D9%81%D9%84%D9%88%D9%8A%D8%AF-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86-%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%86%D9%81%D8%B3-%D8%A3%D9%8A%D8%B6%D8%A7

—————————–

أسرار بن جويرة: دم جديد، كفاح قديم، نضال متواصل

05 فيفري 2021

أسرار بن جويرة، 27 سنة، ناشطة حقوقية تعمل مع جمعية النساء الديمقراطيات وتنشط ضمن ثلّة من رفاقها وزملائها للدفاع عن مكتسبات المرأة والمطالبة بحقوق الأقليات. فتحت عينها على حصار غزّة في 2008 وانخرطت لاحقا في المسار الثوري التونسي، وكانت حريصة على المشاركة في الحركات الاحتجاجية والمظاهرات التي جدّت في السنوات الأخيرة، ومن بينها “حملة حاسبهم” والوقفة الاحتجاجية أمام البرلمان ضد قانون “زجر الاعتداء على الأمنيين”. العديد من الأحداث في مسيرتها اليانعة تجدونها في هذا البورتريه المصور.

—————————

معركة الآنسة فريدة.. حكاية أنثى سجينة جسد رجل تبحث عن حقها فى الحياة.. فيديو

تقرير ـ هدى زكريا ـ منة الله حمدى

“فريدة” وكأن لها من اسمها نصيب، سيدة خمسينية تعيش وحيدة بقصة غريبة وفريدة .

خرجت للعالم وبلدتها الصغيرة فى دمياط تحت اسم “محمد رمضان” ومنذ 4 سنوات فقط أى بعدما بلغت 46 عاما إجرت عملية تصحيح جنسى وأصبحت “فريدة رمضان” ومن وقتها وهى تعانى بسبب وظيفتها بعدما تم فصلها من عملها كمعلمة.

تقول فريدة لليوم السابع: مررت بظروف صحية ونفسية اضطرتنى لإجراء عملية تصحيح جنسى وارفض تماما مصطلح المتحولة لأنى ما أجريته هو تصحيح وليس تحول.

فى التقرير التالى نستعرض قصة فريدة من بدايتها ونسلط الضوء على المشاكل التى تواجهها وتحول دون عودتها لوظيفتها مرة أخرى

https://www.youm7.com/story/2021/1/8/%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D9%86%D8%B3%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF%D8%A9-%D8%AD%D9%83%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A3%D9%86%D8%AB%D9%89-%D8%B3%D8%AC%D9%8A%D9%86%D8%A9-%D8%AC%D8%B3%D8%AF-%D8%B1%D8%AC%D9%84-%D8%AA%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86/5148895

 ———————

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى